موعد مع الموت ( قصة قصيرة )

 



 " ندين للأحياء بالاحترام، وندين للموتى بالحقيقة فقط " 

                                                                     فولتير 


صوت غليان الشاي دوى في البيت، قبل أن ينتبه له " د. يحي " وينهض من مكانه، كان البيت مُرتبًا جدًا، فهو لا يستقبل الكثير من الضيوف في البيت، ليس من عادته على أي حال، فهو مشغول دائمًا بالعمل، يعمل كطبيب طوارئ، وعلى مدار العشرين سنة الماضية، كان العمل هو كل حياته، إنغمس في العمل كثيرًا خصوصًا بعد وفاة زوجته " ليلى " انطوى على نفسه، ولم يسمح لأحد أن يقترب من حياته، وهكذا عاش وحيدًا طوال السنوات الماضية.

أحضر فنجان من الشاي، وضعه في ثبات في غرفة الجلوس، اتخذ كُرسيًا، استقر في داخله، فلقد كان ضعيفًا البنية، وجهه هزيل، في منتصف الأربعينات، يتحرك سريعًا، كما لو كان طفل، في خفة وثبات، يتردد نظره على عقارب الساعة، الكبير خصوصًا، يقترب من تمام الثامنة، مازال هناك بضعة دقائق، يراقبه وهو يتحرك، تتشابك أصابع يديه، لم يسبق له طوال السنوات الماضية أن إنتظر أحدًا، أما اليوم فهو ينتظر شخصية مُهمة، طال انتظارها، سأل الجميع عنها، في بعض المرات طلبًا موعدًا ولم يحصل عليه، أخبروه أنه يأتي فقط عندما يريد، حاول أن يحصل على رقم هاتفه، ولكنه لم يستطع، دائمًا يحاول أن يقابله، تستطيع فقط أن تقابله في أماكن عامة، اليوم سيقابله شخصيًا وفي البيت أيضًا، ولكنه انشغل بالتفكير هل تلك زيارة رسمية، أم غير رسمية، أخيًرًا، وصل العقرب الكبير إلى الثانية عشر واستقر عندها، نظر " د.يحي " ناحية الباب، وبدأ يحبس أنفاسه، ثلاث ثوان قبل أن يدق الباب، إبتسم إبتسامة خفيفة، ونهض سريعًا، فتح الباب، وجد ضيفه أمامه.


  • مرحبًا ..تفضل 

  • أشكرك ..

دخل وتمشى خطوات، وتفقد بنظره في أرجاء المكان، قبل أن يلحقه " د.يحي" ليوجهه لغرفة الجلوس، وأشار إليه ليجلس ويرتاح.

  • لوهلة كنت أقول لنفسي أنك سوف تتأخر  

  • لا يمكنني أن أتأخر 




ظل يحدق يحي كثيرًا في الضيف، مُتكئًا على كوعه، وينظر بعينِ حائرة، ويسمع بأذنِ مُصغية إلى الضيف ثم قال وكأنه يحاول أن يؤسس لحديثًا طويلًا، فكسر الصمت وقال : 

  • يسعدني أنك لبيت الدعوة أخيرًا 

  • حسنًا لا يمكنني القول أن دعوتك هي من أتت بي هنا، ولكن يمكنك أن تعتبرها سبب على أي حال. 

  • لا يهم، ما يُهم أنك جئت أخيرًا. 

  • كما قلت لك ..لا يمكنني أن اتأخر 

  • إنتظرتك كثيرًا بحق. 

  • ينتظرني الكثيرون. 

  • هذا صحيح، هناك الكثير من اليائسين في الحياة أمثالي، ولكنني كُنت أتمنى مقابلتك سابقًا، ربما في ظروف أسوأ من هذه .

  • لقد قابلتك قبل ذلك ...كثيرًا


ظهرت علامات الحيرة على وجه يحي، فلم يسبق له أن قابل الضيف قبل ذلك، تردد قليلًا ثم قال : 

  • هل أنت متأكد من أننا تقابلنا ؟

  • ليس أنت، أنا من قابلتك ..

  • كيف ؟

  • كان لدي مواعيد كثيرة في مكان عملك…

  • أتقصد أننا تقابلنا في قسم الطوارئ في المستشفى التي أعمل بها. 

  • نعم

بدأ يحي يتذكر قليلًا، تأتيه الكثير من الأحداث في عقله دفعة واحدة، ثم عاد للضيف مرة أخرى وهو يجلس في ثبات يقول : 

  • أنا أتذكر ...كان هناك الكثير من المرات التي لا أستطيع أن أحصرها، طلبت منك ألا تأتي ..

  • ومع ذلك كُنت موجودًا. 

  • هذا صعب علي لأتذكره الآن. 

  • لا عليك .. لقد فعلت ما بوسعك ..كُنت أتمنى لو أستطيع أن أخبرك ذلك حينها أن كل ذلك مُقدر ولم يكن في وسعك شئ ..



انهمرت دمعة من عين يحي، لم يستطع أن يوقفها، فحاول أن يغير مجرى الحديث، أخذ كوب القهوة، وذهب به إلى المطبخ قائلًا : 

  • أخذني الحديث حتى بردت قهوتي، أظنك لا تمانع لو أعد واحدة أخرى..

  • على راحتك.

  • أيمكنني أن أقدم لك شيئًا ما، فأنا لا أعرف ماذا تود أن أقدم لك..

  • لا عليك، أنا بخير.

ثم جاء من المطبخ بعد أن وضع الإبريق على النار، وقال مازحًا : 

  • إعذرني فلم يسبق لي أن زارني الموت قبل ذلك.

إبتسم الضيف ثم قال :

  • لا ..لقد جئت هذا البيت قبل ذلك ..

تغيرت ملامح يحي من المُزاح إلى الحيرة مرة أخرى، وسرعان ما فهم، وأشاح بنظره إلى برواز صورة يضعها على المنضدة، إنها لزوجته ليلى وهو يضمها بين زراعيه، تعود الصورة إلى رحلة كانا بها معًا.

  • لقد كانت كل ما أملك، كانت بالنسبة لي كل شئ. 

  • الراحلون دائمًا هكذا، هُم كل شئ لأحد ما، هُم كل شئ لأنفسهم على الأقل. 

جلس وهو يحمل الصورة بين يديه، يحدق فيها، يحبس دموعه، ويحاول أن يكمل حديثه، ولكن ظل يحدق فيها، حتى دوى صوت الإبريق، الماء يغلي، ترك الصورة، وذهب إلى المطبخ، وعاد بفنجان من القهوة..

  • كانت حياتي جميلة، تزوجت من صديقتي ليلى، سافرنا أماكن كثيرًا، ثم جاء هذا الوقت، مرضها، كُنا نعرف أنه ليس هناك علاج بحكم عملنا كأطباء، حاولنا أن نستمتع بحياتنا حتى تأتي أنت، عندها أدركت كم كانت الحياة قصيرة، جئت أنت ورحلت معك، أظنني إنتظرتك طويلًا..على الرغم من أنني كُنت أحاول منعك أن تأخذ الناس..

  • كان موعدهم، لا يمكنك أن تفعل أي شئ.

ضرب يحي يده بقوة على المنضدة، وانهار وهو يقول : 

  • كُنت أحاول ألا يلاقي أحبائهم نفس مصيري..بعدها إنتظرتك مطولًا...لم تأتي..

  • هناك موعد لكل شئ ..






مسح يحي دموعه وتماسك وقال :

  • هل حان موعدي إذًا ؟

  • لن تراني إذا لم يكن قد حان.

  • حسنًا ...لُكل أجل كتاب...لم أكن أخاف منك..بالعكس موت ليلى جعلني أريد زيارتك هذه سريعًا ...لو كُنت أعرف عنوانك لطلبت منك موعدًا قريبًا ..وها أنا بعد عشرون عامًا ألتقيك ...أوتعلم ؟ ..أنا خائف الآن..




                               النهاية.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرابعة والنصف مساءًا بتوقيت دوسلدورف

حامل المخطوطة في ظلام أبدي ( قصة قصيرة )

فرحة البدايات - أول أسبوع في ألمانيا