الحالة المُحيرة للدكتور محفوظ

                      

" دكتور محفوظ عدلي ، تقدر تتفضل  "

قالها سكرتير مدير المصحة النفسية، ليدخل بعدها الدكتور محفوظ، ويقابل المدير، وبعد الثناء الذي قدمه مدير المصحة على الدكتور محفوظ، بعد ما تنقل سريعًا بين أسطر السيرة الذاتية للشاب الثلاثيني، إندهش ولمعت عيناه، وبدأ يفرغ نظره ما بين مرة في أعين الدكتور محفوظ ومرة أخرى في أسطر السيرة الذاتية، حتى إستقرت عيناه في أعين الدكتور محفوظ، وترك الورقة جانبًا.

" لا شئ يثير إهتمامي أكثر من طبيب شاب مثلك" 

" هذا شرف لي يا دكتور" 

" المصحة هنا تحتاج إلى متحمسين أمثالك يا دكتور محفوظ، نوعية المرضى الموجودين هنا، كلهم شباب يعانون من الإكتئاب، الإدمان، الشيزوفرينيا، ولكنهم جميعًا شباب، هذه ضريبة العصر الذي نعيشه كما يقولوا، مع تسارع العالم، والتكنولوجيا، يصاب العقل بالتشتت ويفقد سلامه، ناهيك عن بعض الظروف الأخرى التي تدفع المرء للإستسلام."

" ولكن .." ثم قام مدير المصحة الدكتور فوزي من كرسيه وراء المكتب، وتحرك مارًا بمجلس الدكتور محفوظ، ليجلس بعدها ويستقر أمام الدكتور محفوظ وتابع حديثه.

من خلال كل ما علمته عنك، يشجعني ذلك لأعطيك أهم حالة لدينا.

وما تشخيصها ؟

حالة محيرة، عبدالسلام صادق رجل في منتصف الستينات، يبحث عن الموت، يمُر بحالة نفسية مُعقدة.

هل هو إكتئاب ؟

لم يستطع أحد أن يحدد، إكتئاب، شيزوفرينيا، ثنائي القطب.

يريد الإنتحار؟

ويحاول أيضًا.

قبل أيام كانت تلك بداية الخروج للدكتور محفوظ، ما لم يعرفه مدير المصحة، هو أن الدكتور محفوظ عانى كثيرًا من الإكتئاب، كان هناك أيام لم يقوى فيها ن على النهوض من السرير، وقول صباح الخير حتى، كان مُتعذبًا، لاسيما في الأوقات التي حدثت له فيها مشاكل حياتية، كان دائمًا ما يهرب مما يحدث في شهر سبتمبر، حيث فقد أعزائه جميعًا الواحد تلو الآخر، السنة تلو الأخرى، ودع صديقًا، أو قريبًا، وحتى ودع كلبه العزيز في سبتمبر الماضي.

 ما الذي ينتظره في سبتمبر القادم، كان هذا كل ما يشغله، لم يعقد أي صداقات جديدة، لم يعرف أي أحد جديد، إنفصل عن جميع معارفه وأصدقائه، حتى عائلات والديه، أقربائه المتبقون.

 سافر بعيدًا حتى لا يتذكرهم مرة أخرى، حتى لا يشكل موتهم إن حدث عائقًا نفسيًا مرة أخرى، ويزيد الطين بلة، ويحاول أن يصنع من هذا الشهر، صدمة نفسية كبيرة.

 كانت طريقة علاجه لنفسه، تتشكل في الهرب، وهرب من كل شئ، وجد إعلان على منصات التواصل الإجتماعي، التي لطالما عقد العزم على التوقف عن إستعمالها، وكانت تلك المرة الأخيرة، أخذ هاتفه وألقاه بعيدًا، وحطم جهازه المحمول، وبدأ في إستخدام الورق، لا يمكن أن يذكرك الورق بأي شئ، لا عيد ميلاد صديق، أو حتى إنتحاب صديقة، ولا يمكن أن يصنع لك الأصدقاء.

حتى إن عندما كان يتقرب منه أحد جيرانه في العمارة، كان يعاملهم بطريقة لا تمت لطريقة تربيته بصلة، حتى يستفزهم حديثه، فلا يرغبون في الحديث معه مرة أخرى، وكان يتعمد أن يظهر لهم في صورة رجل صعب المراس، حاد المزاج، سئ، حتى لا يحبوه.

وعلى الرغم من ذلك كان يتألم بشدة من داخله، فما الذي يفعله؟ ، إنها الطريقة الوحيدة، كيف تمنع موت الجميع من حولك، بالهرب بعيدًا، إن كنت سبب الداء، فرحيلك هو الدواء.

وعندما وجد تلك الوظيفة، ليذهب بعيدًا عن أي مكان، ليعمل فقط، ليقابل مرضى، ولا يمكنك أن تتعلق بالمرضى، فأنت فقط كطبيب نفسي تُعالج المرضى، ولا يمكنك أن تصنع علاقات أو صداقة معهم.

لذا كان هو سبب رحيله إلى المصحة، على الرغم أن عمله كان يتضمن فقط العمل لبعض الوقت في اليوم في العيادات النفسية في المستشفيات الحكومية، ولكن كان رحيله حتى لا يجد وقت فراغ ليتقابل مع أي أحد، أو حتى ليشعر بالوحدة.

أرشده أحد أفراد الأمن على مكتبه الجديد، دخل ووضع حاجياته، ووجد على مكتبه، ملف مكتوب عليه " حالة عبد السلام "، تصفحه ليقرأه سريعًا، يراجع فقط المعلومات الأساسية، وخرج ليسأل أحد الممرضات، وهو ينظر في الملف ويقرأ إسم المريض.

عبد السلام صادق، كيف حاله اليوم ؟

بخير، يبدو مُستقرًا مُنذ أيام، تقريبًا لم تُعد تزوره الهلاوث.

عظيم. أين يمكنني أن أجده؟

يجلس على الشاطئ هناك

شكرًا..

كانت المصحة كبيرة جدًا، أشبه بمنتجع سياحي، لها وجهة كبيرة جدًا على الطريق، مبنية في مكان هادئ وبعيد عن الناس والأبنية، تطل من الناحية الأخرى على الساحل، لها شاطئ كبير خاص بها.

كان أغلب المترددين على المصحة، أشخاص لهم نفوذ، أو مشاهير، أو أصحاب شهادات أكاديمية عالية، وكان عبد السلام صادق، رجل أعمال قادم من الطبقة الفقيرة في مصر، أحد سكان أحياء الوايلي لذا ما الذي يفعله هنا؟.

 

 

إقترب الدكتور محفوظ من عبد السلام، كان يجلس وقتها على كرسي، تلامس قدماه الأمواج، على الشاطئ، وينظر إلى فراغ البحر، وقبل أن يقترب.

لو كنت مكانك لخلعت حذائي.

ما الذي يجعلني أفعل ذلك ؟

لتشعر بما أشعر به، حتى لا تسألني لماذا أجلس هنا، أو كيف أشعر ؟

حسنًا سأفعل . وخلع حذاءه ووضعه متراصًا بجانب بعضه إلى جانبه وقف إلى جانبه ينظر إلى اللانهاية للبحر.

أنا الدكتور محفوظ بالمناسبة.

منا عارف.

إبتسم الدكتور محفوظ. إذا أنت تعرف أنني هنا لمساعدتك يا عبدالسلام.

لكن أنا من هنا لمساعدتك.

ماذا تقصد؟

أنت لديك الكثير من المشاكل النفسية.

وما الذي يجعلني أصدق ما تقول ؟

حالتك مزرية.

إرتبك الدكتور محفوظ ولكن حافظ على هدوءه ولم ينفعل تجاه عبدالسلام وتابع حديثه وكأنه لم يسمع شيئًأ .

قيل لي أنك حاولت الإنتحار من قبل ؟

مرتين

صحيح ، لماذا ؟

إلتفت عبدالسلام للدكتور محفوظ وقد حظى على إنتباهه.

هذا العالم لا يصلح للعيش أبدًا، إنه مريض، يظل يصاب بالكثير من الأمراض في جميع الجهات، حتى يتداعى أمامك، ويبدأ في السقوط، عندها ترى الشر يطفح على البشرية بدلًا من الخير، ترى الكره والحقد في أعين من تحبهم، إنه عالم متقلب ومرعب، لا يمكنني العيش فيه ببساطة، ولا يحق لكم منعي.

ولكننا لا نمنعك، بل نساعدك، لتعطي نفسك فرصة أخرى.

أتظنني لم أعطي نفسي فرصة أخرى، لقد فعلت..كثيرًا

ربما لم تفعلها بالطريقة الصحيحة..

هل يمكنك إرشادي إلى الطريقة الصحيحة إذًا؟

هذا ما أنا موجود لأجله.

ولكن إن فشلت.

لن يحدث.

إن حدث.تتركني لأفعل ما أريد.

لا أستطيع أن أقول لك ذلك.

ولكنك موافق في قرارة نفسك

بالطبع لا.

بالطبع موافق.

سأتركك الآن، يمكننا أن نتحدث سويًا.

عظيم، إتركني لأفكر قليلًا، أبتكر طريقة لإنهاء حياتي.

رجاءًا لا تفعل ذلك.

بالطبع لن أقتل نفسي، لدينا إتفاق. لا تقلق.

 

جلس الدكتور محفوظ في مكتبه، يقرأ في ملف عبد السلام، حين دخل عليه أحد أفراد الأمن يصطحب عبدالسلام في يده، دخل عبد السلام ولم يجلس، بل ظل يطالع الكتب المرصوصة في المكتبة، التي كانت في مكتب الدكتور محفوظ.

إذا ما حكايتك؟

تريد أن تعرف قصتي؟

لكي أققدر أساعدك.

حسنًا..من أين ابدأ .؟

ماذا تعمل ؟

مكتوب عندك

أريدك أنت أن تخبرني

أمتلك شركة مقاولات كبيرة

وماذا درست ؟

لم أدرس في المدرسة، في المصانع درست

ما الذي تشعر به تجاه رحلتك حتى الآن

توقف عبدالسلام عن العبث بالكتب وجلس على الكرسي وتبدلت ملامح وجهه إلى الحزن .

مملة، الكثير من النصب ، الأعمال السيئة، دمرت حياة الكثيرين بينما كان بإمكاني أن أساعدهم ولكن لو ساعدتهم لما وصلت لكل هذا ولماذا كان يجب أن أصل لكل هذا، يكفيني الحياة الزهيدة، ولكن لا أعتقد أنها كانت ترضيني، لكنت ناقمًا على حياتي، لو ظللت أعيش في ذلك البيت البائس، الذي كنت أعيش فيه.

وبدأ في البكاء، نهض الدكتور محفوظ من مقعده وجلس أمامه وأعطاه منديلًا وأخبره.

لم يفت الأوان لإصلاح الأمور.

كيف تجرؤ أيها الوقح، أن تعطيني أملًا مزيفًا من جديد

هذا ليس أملًا مزيفًا، إنه الطريق لإصلاح ما إقترفته

هل يمكنني إذا إعادة ذلك الرجل منذ عشرسنوات الذي إنتحر من على الكوبري لأنني هددته ليشهد زور في قضية سوف تودي برجل برئ إلى السجن مدى حياته، أم هل يمكنها إعادة أسرته المشردة الآن التي لا أعرف أين هم، ربما أطفاله الآن يعملون عند إحدى الإشارات، أنا متأكد أنك ربما طلبت من أحدهم أن يمسح لك زجاج سيارتك مقابل صدقة بسيطة تعطيها لهم..لا يا دكتور ..لا يمكنك إصلاح مافات صدقني .

كانت الكلمات مؤثرة في طبيب نفسي مثل الدكتور محفوظ ولكنه كان قادرًا على الحفاظ على هدوئه حتى إنتهاء وقت الجلسة وإفصاح عبدالسلام عن كل ما يود أن يقوله، عندها جلس وحيدًا في مكتبه، وبدأ يفكر وهو ينظر من زجاج مكتبه، هل يمكن أن يكون ذلك صحيحًا، لا أحد يستطيع تغيير الماضي، وهذا ما يجعل الإكتئاب من الصعب إصلاحه، من يصابون بالإكتئاب فعلًا، لا يتم شفاؤهم نهائيًا، ستحدث النكسات، ولكن لا أعرف متى، كانت هناك تلك السيدة التي كانت تعمل راقصة باليه في وقت ما من حياتها، كانت مشهورة وكل شئ براق وجميل، يلمع حتى النهاية، وحتى إطفاء الأنوار، عند بلوغها سن العشرين، إصابتها بالإكتئاب غيرت كل شئ، الفتاة الراقصة النشيطة، أصبحت كسولة، لا تعمل، ولا تحب، ولا تكره، كانت لديها إكتئاب عميق، لم يعرف أحد مصدره، كانت نفسها لا تعرف مصدره، أصابها الإكتئاب حتى سن الأربعين، عشرون عامًا من الإكتئاب، وفي سن الأربعين، كان معالجها الشاب الجديد دكتور محفوظ، بدأ في معالجتها بإستخدام الصدمات الكهربية، يذكر جيدًا أنه في إحدى المقابلات، بكت وأخبرته أنها تريد أن تصبح سعيدة من جديد، تريد أن تمارسها حياتها بشكل طبيعي، ومع أول جلسة بإستخدام الصدمات الكهربية، بدأت في إستعادة حياتها من جديد، وكان يفكر في إستخدام ذلك مع عبدالسلام.

خرج من المكتب، وذهب إلى غرفته لينام فيها، وجلس وهو ينظر إلى البحر، ويبدل ملابسه، فتش على علبة السجائر في جيوبه لم يجدها، وجد على المكتب فقط سجارتان، في علبة فارغه من السجائر سوى الإتنين، أخذ واحدة ولم يجد " ولاعة " خرج لغرفته كان يجلس حارس في الخارج.

هل يمكنني الحصول على ولاعة ؟

بالطبع، أين سيجارتك ؟

إنها في يدي

فلتضعها في فمك

قام بإشعالها له وعاد الدكتور محفوظ إلى غرفته مرة أخرى، يراقب البحر، ويرسم حتى نام.

إستيقظ الدكتور محفوظ على صوت ممرضة، بدأ في تبين الصوت، وراقبها وهي تتحدث لم يسمع جيدًا وهو يحاول أن يفتح عيناه، وهي تفتح الستائر.

إستيقظ يا محفوظ الآن ، حان وقت النهوض من السرير.

ما الذي يحدث ..أغلقي الستائر. كم الساعة الآن ومن سمح لك بفعل ذلك ؟

على فكرة لا ينبغى أن تفعل ذلك كل صباح.

ماذا ؟

أنت تفعل ذلك كل صباح، الدكتور مختار سيقابلك بعد دقائق.

إعتدل في جلسته، وهو لم يفهم أي شئ، عدل ملابسه وبعد دقائق دخل الحارس.

هيا سوف أصطحبك للدكتور مختار.

يمكنني الذهاب وحدي. وتابع غلق أزرار القميص.

أنا أعرف ولكن يجب أن أصطحبك.

لم يفهم ولم يرد أن يفتعل شجارًا بل ذهب معه، ودخل ليجلس مع الدكتور مختار، وحين كان بصدد أن ينسى ما حدث، لاحظ أن الحارس مايزال موجود بداخل الغرفة، يقف في إنتباه من بعيد، يراقبه.

هل هناك شئ؟ لماذا يقف هذا الحارس هنا ؟ ومنذ قليل كانت هناك ممرضة تقتحم غرفتي ، هل هذا يحدث هنا للأطباء ؟

إبتسم الدكتور مختار. محفوظ كيف أخبارك؟

أنا بخير.

هل نمت جيدًا ليلة أمس ؟

قليلًا.

هل تتذكر ما حدث ؟

أحس بغرابة السؤال. نعم أتذكر

هل يمكنك أن تخبرني ؟

لقد قابلتك وخرجت لأتابع حالة عبدالسلام، وتحدثت معه في جلسة في المساء.

تغيرت ملامح وجهه الدكتور مختار وقال :

أنت لست طبيبًا نفسيًا يا محفوظ، أنت نزيل هنا لأنك مريض نفسي، أنت مريض بالشيزوفرينيا..إنفصام شخصي، لم يحدث ذلك.

ماذا ؟ ماذا تقصد ؟

أنت مريض نفسي، وهذا طبيعي جدًا بالنسبة للمرض، أنت تختلق قصة لم تحدث، لم يحدث هذا ولا يوجد من يسمي عبد السلام

إذًا ماذا حدث البارحة؟

لقد قابلتك في مثل هذا التوقيت البارحة، تحدثنا قليلًا وجلست في المكتبة قليلًا، وطلبت من الممرضة أن تجلس قليلًا على الشاطئ، ثم عدت للمكتبة ودخلت إلى غرفتك الساعة التاسعة. وهذا الميعاد الذي يخلد فيه الجميع لغرفههم.

إنفعل محفوظ ونهض من مكانه وإتهم الدكتور مختار بالجنون والإحتيال عليه.

يجب أن تلتزم بالعلاج ثانية، لقد بدأت الهلاوس تراودك مرة ثانية، أنت تدعي أنك طبيب ولكنك لست طبيب.

وراح يتردد في عقل محفوظ، أسئلة كثيرة، من بوابة الشك والحيرة، وعدم التصديق لما يحدث، ربما يحتال عليه، وربما صادق في ما يقول، صمت من دون أن يتحدث وهو يلتفت فقط حوله.

أنت مريض نفسي، وأولى خطوات العلاج النفسي، هي أن تعرف لماذا أنت هنا، وأنت ترفض ذلك بعد ست شهور من العلاج، البارحة كانت إنتكاسة أخرى، والآن سيأخذك الحارس إلى غرفتك، وسوف أكتب لك المهدئات بجانب أدوية الهلوسة.

إصطحبه الحارس إلى غرفته، وهو يفكر في حيرة في ما يقوله، هل هو صحيح، أءنا مجنون، وأقوم بخلق قصة لم تحدث، أم أن كل شئ حدث وهناك من يريد أن يفعل هذا بي، ولكن ليس لدي أعداء، هل ما أعرفه عن نفسي حقيقي، أم أنه قصة أخرى، من أنا وما الذي يحدث في عقلي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرابعة والنصف مساءًا بتوقيت دوسلدورف

حامل المخطوطة في ظلام أبدي ( قصة قصيرة )

فرحة البدايات - أول أسبوع في ألمانيا