غرباء مدينة ماونتن - الفصل الأول

 



مر القطار كما تمر أيامي ، سريعة ومزعجه ، تفحصت الحقيبة وجيوبي بحثًا عن شئ لا أعرفه، أشعلت سيجارة وتفحصت بعيني المحطة، لم يكن هناك أحد في إنتظاري، ولكنني طلبت سيارة أجرة، وضع الحقيبة في الخلف ثم صعدنا إلى السيارة ..

كان هناك الكثير من الملصقات على الطريق، إستغرقت في التفكير فيها، صورة لطفل في العقد الثاني وقبل أن أستغرق أكثر في التفكير، شدني إلى الواقع مرة أخرى السائق:

إنه أوليفر روبرت ...لم يعد للبيت مُنذ عشرة يومًا ولا يعرف أحد أين يكون ..

سألته بكل إهتمام :

وما تخمينك لتغيبه ؟

ركز في الطريق لعدة ثواني ، ثم عاد إلي مرة أخرى :

لم اسأل نفسي هذا السؤال ولكنه يستحق الإجابة ، أعتقد أنه قُتل ، لا يختفي الأطفال في هذا السن هكذا ، كما أنني لا أعتقد أنه هرب من والديه ، ولا أعتقد أنه خُطف، فحتى الخاطفون يطلبون فدية في نفس اليوم ولكن في حالة أوليفر لم يتصل أحد بوالديه ولم يساومهم على أي شئ ، فهذا يرجح حقيقة أنه قد قُتل ..

مثير للإهتمام ..

ولكنني سمعت أنهم قد إستدعوا محقق جرائم غامضه من شيكاغو ..أصلي لله حتى يستطيع أن ينجز تلك المهمة ...

ماذا كُنت تفعل لو كُنت ذلك المحقق ؟ ما الذي قد تفكر فيه في البداية ؟

ضحك السائق وقال :

يا سيدي أنا لا أملك تلك الطاقة في التفكير ، إن كُنت أملكها لما كُنت سائق تاكسي..

قلت لنفسي ، الجميع يقلل من شأنه، ماذا عني ؟، هل أعطي لنفسي ذلك التقدير الذي أستحقه، أم ماذا وعن ماذا أبحث بالضبط هنا ؟ ، بحكم عملي يجعلني أسافر لمناطق كثيرة ولكن مقاطعة أخرى خارج مدينتي، لم أكن أتخيل ذلك، في الخامسة والأربعين وأريد الإستقرار، لا أريد التنقل كما كُنت في العشرينات وهذا الهاجس في الرحيل من مكان لمكان وحل الألغاز، الكثير من الجرائم، والكثير من الدماء، الكثير من كلمات الوداع، والكثير من القتلة، مهنة صعبة، ولكنها مُهمة وهذا ما أفعله هنا، قلت للسائق :

فلتأخذني إلى فندق

ليس لدينا سوى فندق واحد في المُقاطعة وسوف آخذك إليه ..إنه جيد لا تقلق ، ينزل فيه جميع السياح كما أنه بالقرب من حانة إذا أردت أن تشتري مشروبًا ..

هذا عظيم وهذا ما ينقصني ، قلت لنفسي ولكنني لم أجاوبه على شئ، وظللت أركز على مهمتي أكثر، ومن أين يجب ان ابدأ، يبدو أن علي البدء من حيث إنتهى المفتشون هنا، عشرة أيام كثيرة جدًا على إختفاء طفل ، ولا يمكنهم حتى تكوين فرضية عن إختفائه، يجب أن أبدأ في زيارته أهله وطمأنتهم، ولا أعرف كيف ذلك ولكنني يجب أن ابدأ به، أم أستريح من الرحلة التي دامت عشرون ساعة في قطارات مختلفة وسط الأشجار والهضاب، ولكن حمدا لله إنني حي الآن ، يتوقع جسدي أن أستريح قليلًا ، أما عقلي فيأبى ذللك ..

وصلنا للفندق ، كان بسيطًا ومتواضعًا، كان نزلًا وليس فندقًا ، أنزل السائق حقائبي بينما وقفت مذهولًا قليلًا بسبب توقعي أنني سأكون في فندق، ولكنني أمام نزل مثل أي نزل على الطريق السريع، وبعد رحيل سيارة الأجرة ، تنهدت الصعداء وحملت حقيبتي ودخلت إلى الفندق، كان الدخول والممر، تتخلله أشعة الشمس من الخارج، رأيت سيدة تجلس خلف المكتب، ترتدي نظارة كبيرة الحجم ، وشعرها مموج إلى جانب واحد، وتمضغ علكة، وقفت قليلًا أمامها قبل أن أسترعي إنتباها ولا أعرف ماذا كانت تفعل، فلا أعتقد أنها مُنشغلة بأمور النزلاء ثم نظرت إلي وقالت :

صباح الخير في نزل روز

صباح الخير ..هل يمكنني حجز غرفة ؟

بالطبع ...لحظة واحدة ..

رن جرس الهاتف، رفعت السماعة :

نزل روز ..كيف أخدمك ؟...لا أعتقد ذلك ..يجب أن تعودي قبل السادسة مساءًا ، لا أريد أن أفقدك ويقوم أحدهم بإختطافك مثل الطفل أوليفر ...لا هذا لا نقاش فيه .

ووضعت السماعة ثم عادت لي بإبتسامة لطيفة وقالت :

أنا آسفه ..غرفة لشخص واحد، أليس كذلك ؟

قلت لها بإبتسامة أيضًا :

على ما يبدو ..

ما إسمك إذًا ؟

جوزيف ..

فلتعطني بطاقتك لو سمحت ؟

أعطيتها البطاقة ، فكتبت الاسم كاملًا ثم أعادت النظر مرة أخرى لها وقالت :

هل أنت محقق جرائم؟

يا إلهي سوف تضع أمامي الكثير من الاسئلة ولن تفلتني بسهولة ولكنني بإبتسامة أجبتها :

نعم أنا محقق جرائم في نيويورك

أخبرني أنك جئت لتحقق في إختفاء أوليفر روبرت ..لا تخيب أملي ..

بالطبع ...أنا هنا من أجل هذا السبب ..وسيسعدني أن تكملي لي الحجز حتى أستطيع الإستعداد للتحقيق ..

أكيد ..أنا آسفة لأن ذلك الإختفاء هو ما جعلنا ما نحن عليه ..نقلق كثيرًا ..

وأشارت ناحية الهاتف وقالت :

نعاني جميعًا منذ حدوث ذلك ..هذه إبنتي على الهاتف منذ قليل تريد أن تتأخر في العودة إلى هنا ولكنني خائفة ولم يحدث هذا من قبل ....

قاطعها صوت جاء من ورائي قائلًا :

المحقق جوزيف ..

إستدرت ووجدت رجل ضخم البنية، ذو شارب طويل، سمين، وقبعة مثل رعاة البقر، ومسدس في جانبه.

رددت عليه :

بشحمه ولحمه ..

مد يده وقال :

أنا المفتش جيمس ..يمكنك أن تدعوني جيمي ، يفعل الجميع ذلك ، ماعدا زوجتي فهي لا تحبني كما يبدو ولكننا على وفاق ، لا تشعر بالأسي من أجلي ...على أي حال .لم يعلمني مكتب المأمور أنك قادم اليوم ...

قلت له :

كُنت أعتقد أنهم أرسلوا لك رسالة ، انصدمت لعدم وجود أحد في المحطة بإنتظاري ..

عندما علمت بوصولك جئت إلى هنا فورًا ..لأقلك ..المعذرة يا روز إنه سيقيم في بيت المأمور القديم، إنها تعليمات واضحه ...

ردت روز :

ها أنت تسرق زبائني وتراني أعاني من قلة السياح في بلدتنا الهادئة بسبب ذلك الحادث ..

وأعطتني البطاقة ، حملت حقيبتي وتبعت جيمس المفتش إلى الخارج ، كان لديه شاحنة صغيرة ، صعدت إليها وسألته :

كيف عرفت أنني وصلت إذًا ؟

ضحك ساخرًا وقال :

أعين الغراب في كُل مكان ..

قلت له :

ولم تخبرك أعين الغراب بمكان إختفاء أوليفر روبرت ..

توقف وجهه عن المزاح ولم يتحدث. ظل يشغلني طريقة معرفته أنني وصلت إلى المحطة ولكن ذلك لا يحتاج إلى الذكاء، فهو ضابط القرية هنا، وبغياب المأمور فهو يتصرف كما يتصرف المأمور، سألته :

لماذا لم تحضر الدائرة مأمورًا حتى الآن ؟

يبدو وكأن سؤالي قد أغاظه قليلًا، فقال بلا إهتمام وكأنه يراقب الطريق:

لا أعلم ..يبدو أنهم لا يحتاجون لذلك ..ليست هنا أشياء تحتاج إلى مأمور ، فقط بضعة سرقات ..

نظرت إليه فعرف أنني أذكره بشأن إختفاء أوليفر فتابع :

وبعض الأمور الأخرى التي تحتاج إلى حل .

جيمس، في نهاية العقد الثالث، ولم ينجح ليصبح مأمورًا، ربما بسبب الملف الذي قرأته عنه في القطار، أثناء رحلتي إلى هنا ، شديد اللهجة، وهوائي، ينقصه الثقة بالنفس، وإتباع القواعد، ومخالفته للقواعد من شأنه أن يجعله عدم مُرشح لمنصب مأمور القرية، ولكن ليس هذا مُبررًا لجعل القرية بدون مأمور، ومن المُحتمل أيضًا أنه قد وضع حياة أوليفر في خطر، هل كانت حياة الطفل أوليفر في خطر بسبب بضعة أسباب إدارية، كان من الممكن أن تُرسل الدائرة أحد رجالها ذوي الكفاءة لشغل منصب المأمور، ولكن هذا أقل ما يشغلني في الوقت الحالي، لابد من العثور على أوليفر وبسرعة.

أيها المُحقق ، لقد وصلنا إلى بيت أوليفر ، هل تريد المرور بهم وربما طمأنتهم ولو قليلًا ؟

نظرت إلى يميني حيث أشار جيمس، كم هي مأساة بحق، وما عساي أن أخبرهم، في العادة لا تأتيني قضايا إختفاء، تلك أول قضية إختفاء وخصوصًا لطفل، ترجلت من السيارة، وقفنا عند الباب، دق جيمس الجرس، سمعت الخطوات اليائسة التي يثقل قدمها سير خطواتها، وفي كل خطوة كان يؤلمني إنتظار ما سأواجهه، في العادة لا أعطي آمالًا مُزيفة، ويظن البعض أنني ربما مُحققًا عبقريًا أو شيرلوك هولمز، ولكنني لست كذلك، وهذه ضريبة عملي، لا تأتيني قضايا سهلة، وبالطبع لستُ عبقريًا كما وددت أن أؤكد لك، ولكن لا يمكنني الإستسلام، لا أستطيع ببساطة أن أقول أنني لا أعرف، يجب أن أحل القضية، يجب علي ذلك.

تلك الخطوات ذكرتني بتلك القضية في بلدة سيلانج، وكان يتعين علي أن أحضر قاتلًا مُتسلسلًا أو على الأقل مشتبهًا به في مقتل ثلاث رجال وامرأة، لم أستطع النوم لعدة أيام، بدأت أرى أشباحًا في الطريق، بحثنا في كُل مكان، كان القاتل متواجدًا دائمًا إلى جانبي، ولم أستطع أن أعرف ذلك، لقد كان يعرف كُل شئ بكل ببساطة، كان مُخبرًا مريضًا نفسيًا أو متعطشًا للدماء كما تقول، كان يتعين علي أن أسير إلى أربعة منازل، أربعة عائلات وأن أخبرهم أن القاتل قد تم القبض عليه، ولكنني لن أستطيع أن أعيد لهم ذويهم.

فتحت سيدة تبدو عليها الرقة، عينان حمراوان من الحُزن، متورمة أيضًا، يظهر زوجها من خلفها بسرعة ويسأل :

هل من أخبار يا جيمس ؟

قريبًا يا روبرت ..اُعرفك هذا المُحقق جوزيف، مُحقق جرائم شهير في نيويورك، سوف يُحقق في إختفاء روبرت ..لا تقلق.

مد يده ليسلم عليَ، ربطت على يده قائلًا :

لا تيأس ..سوف نعيده إلى المنزل.

وبدا عليه بعض الأمل ، فإنصرفنا  أنا وجيمس ، لا أعرف كيف فعلتها، إنها القاعده الأولى لدى المُحققين في قضايا الإختفاء، لا تُعط وعود لست مُتأكدًا من الوفاء بها، ولا أعلم ماذا فعلت، فلقد بدا أن عقلي اللاواعي هو ما دفعني لذلك، ولكن جوزيف يبدو أنه قد أحياه ذلك الأمل، وحين إنطلقنا إبتسم وقال جيمس :

لقد كُنت رائعًا بحق في الداخل، هذا ما أتحدث عنه ...بدون مزاح، أنا مُعجب كبير لك وبقضاياك

هل قرأت القضايا التي قمُت بحلها .؟

جميعها ..لقد خضت الإختبار لأصبح مُحققًا أكثر من مرة ولكن لم يحالفني الحظ، من كان يعتقد أنني ساعمل جنبًا إلى جنب مع المُحقق جوزيف ...

جيمس مُتحمسًا للعمل معي ، ربما هذا أعادني مرة أخرى للواقع والحماس، وفي تلك القضايا، يجب أن تشك في الكثير من الأشخاص، في البداية لابد أن تحصل على دزينة من المُشتبه بهم، هذا يعني أنك لديك طريقًا واحدًا على الأقل صحيحًا، وصلنا إلى البيت، وضعني داخل بيت، صالة واسعة، ومطبخ وغرفة، رصصت كُتبي، صورة ماري على الحائط أمامي، ولابد أنني غفوت قليلًا بعد رحيل جيمس لأنني رأيت ماري ، تُساعدني في وضع أشيائي في أماكنها الصحيحة، كما أعتادت أن تأتي معي في كُل مرة أنتقل فيها إلى سكن جديد، تساعدني في تنظيف الفوضى ليس فقط في مكتبي بل في حياتي أيضًا، رأيتها تضع بيديها الصور تلو الأخرى ، التي إلتقطها لها في رحلتنا إلى موناكو، واسكتلندا، تلك الرحلات التي أحبتها كثيرًا، تخبرني دائمًا أن علي أن استريح، أجمع شتاتي، تأخذ كل قطعة في كياني وتعيدها مرة أخرى مشحونة بالطاقة، تحسست يدها لثوان وإختفت، لم يكن لها وجود، إنها في عقلي، إستيقظت، وذهبت إلى المقهى على الفور، تفحصت المكان بعيني جيدًا، وعلى الرغم أن هناك الكثير يتفحصني بنظراته، وسمعت تمتمات، عن وصول المُحقق الجديد الذي سيحقق في إختفاء أوليفر، قال أحدهم:

أين هو إذا مُنذ عشرة أيام؟

سؤال وجيه، لو أحسن أحدكم التفكير وأرسل إلينا في الدائرة لما كانت تلك الحال الآن، على أي حال لم أتحدث، وتجنبت مُحادثاتهم.

قهوة لو سمحت، وأريد هاتف ؟

ظهر لي رجل ضخم البنية، سمين، وذو صوت مميز، اومأ لي يسألني :

إذًا الخبر صحيح ..

استغربت وقلت :

أي خبر ؟

أنت المحقق إذًا ..

إبتسمت، وأعجبني أنه عرفني، سألته :

وكيف عرفت ذلك ؟

أنا أدير الحانة الوحيدة في البلدة ، أستطيع تمييز الوجوه الجديدة بسهولة، لا يحتاج الأمر إلى ذكاء ..

بالطبع لا يحتاج إلى ذكاء ..أنا جوزيف ..

وأنا نوح ..

إذًا أيمكنني إستخدام هاتف ؟

هناك في الزاوية هاتف..

أصابعي ترتجف ليس كالعادة، ولكنه الخوف من الرفض مرة أخرى، عدة أرقام، وصوت من الناحية الأخرى.

أنا ماري ..لستُ موجودة في الوقت الحالي ، اتركوا رسالة بعد الصفارة.

الصفارة تنطلق وأجد لساني عاجز عن النطق :

ماري ..إنه أنا ..جوزيف ، لقد وصلت إلى بلدة ماونتن اليوم، كانت رحلة بالقطار طويلة، أفتقدك ..تعرفين أنها أول رحلة لي بدونك، يؤلمني أن أسافر بعد شجارنا الأخير ، ولكن إختفاء ذلك الصبي يحتم علي أن أذهب ..سوف أوافيكي بتطورات القضية ..إلى اللقاء .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرابعة والنصف مساءًا بتوقيت دوسلدورف

حامل المخطوطة في ظلام أبدي ( قصة قصيرة )

فرحة البدايات - أول أسبوع في ألمانيا