الحقيقة والخيال
سلك الطرق المختصرة في الشوارع الضيقة والخالية، بعد أن أمر السائق أن يستقر أول الشارع، ليسلك بعدها في الشوارع الجانبية طريقا إنارته ضعيفة، تحت أمطار ديسمبر مضى ليلا يتحسس طريقه ليسقط على رأسه بضع قطرات من المطر آنذاك، ليخرج على شارع رئيسي آخر، بضع خطوات ويستقر أمام مقهى العزيزة في محطة الرمل، نظر متفحصا المكان فلم يجد ما يبحث عنه، وكيف يتبينه وهو لا يعرفه، إنه لقاء مع مجهول، نظر بإشمئزاز للمكان ولكنه جلس في النهاية قرب باب الخروج مراقبا الشارع والمارين، كان الوقت ليلا، ومن عادته أنه لا يخرج ليلا ولكن كما يبدو قد كسر تلك القاعده الليلة ، بدا يلتفت يمينا ويسارا فلفت إنتباه صبي القهوة الذي لم يكن يحتاج إلى دعوة للحضور وأن يسأله عم يحتاج ، تقدم وسأله :
أقدملك قهوة يا أستاذ ؟
رد بدون أن يلتفت ولم يلق له بالا :
لا ولكنني أنتظر شخصا ما
لابد أن تشرب شيئا
وقبل أن يلتفت إليه ، جلس شخص ما إلى جانبه وأجاب الصبي :
كوبان من القهوة لو سمحت
ثم أضاف :
إعذر الباشا ، لا يعرف مراد باشا قواعد المقاهي فهو معتادا دائما على الفنادق ..
ويبدو أن تفهم الصبي شيئا وأحس بوجود عاصفة من الجدل قادمة فإنصرف.
تابع مراد النظر لثوان ناحية الرجل الذي أمامه يرتدي نظارة كبيرة وعلى ظهره تستقر حقيبة، وضعها أمامه أخرج بعض الصور الفوتوغرافية منها وتبين مراد بنظرات متتالية بين وجه الشاب والحقيبة التي كانت لحفظ الكاميرا أيضا. فقال مراد :
ما الذي تريده مني ؟
فوضع أمامه مجموعة من الصور
نظر فيها مراد سريعا وخبئها جميعها على وجهها وأعاد السؤال، قال له :
لا تريد أن ينفضح السر أليس كذلك ؟ يمكنني أن أحفظه لك كما لم يكن ولكن عليك أن تفعل شيئا من أجلي.
قاطع حديثه الصبي وهو يضع القهوة أمامهم، فسأل مراد مرة أخرى :
هل تبتزني أيها الحقير ، لقد عرفت أمثالك طوال حياتي ولن أنزعن لما تريده مني ..
أخشى أنك لا تملك خيارا هنا يا مراد باشا، وبالحديث عن أمثالي، لقد عرفت أمثالك أيضا طوال حياتي ويمكنني أن أخبرك أنهم يفعلون ما أريده في النهاية، مهما كانت قوة صلابتهم أو مقاومتهم، لذا فلنوفر على بعضنا الوقت هنا وتخبرني عندما تكون مستعدا للحديث مرة أخرى ...
ثم جمع الصور ووضعها في الحقيبة وإرتشف سريعا البعض من القهوة وقال :
فلتحاسب على القهوة ...
ورحل. ظل مراد في حالة ذهول وحيرة فس التفكير، فوضع بعض النقود، ربما أكثر من ثمن كوبان من القهوة وعاد متسائلا، وضاقت عليه الشوارع المتسعة والقصر الشاسع، كما ضاق عليه صدره ليفصح عما في صدره لزوجته فريال ولم تكن فريال لتتفهم المأزق الذي وقع فيه ولكن لم يمكن بيده حيلة فهي المدبر لكل شئون حياته، وفي وقت كان شاردا فسألته عما يشغل باله ويأخذ عقله فقصى لها ما حدث :
كما أنني لم أدفع له ، ينتابني شك في أن يفضح تلك الصور ..
ردت بكل هدوء :
وهل طلب المال ؟
لم يطلب المال ولكنهم كلهم يريدون المال
ليس شرطا ، يجب أن تطلب رؤيته وتعرف ماذا يريد ..
ثم إنصرفت.
كان مراد هو الزوج الأول لفريال ولكنها لم تكن زوجته الأولى، كانت تكبره في السن تزوجها لمصالح مشتركة بين عائلتيهما والحق أنه في قرارة نفسه لم يحبها قط ، فلم تكن جميلة ، بل كانت ذات ملامح جادة، رجولية وليست أنوثية، وجامدة ليست عاطفية، تنحدر من عائلة ثرية أيضا، أما مراد البالغ من العمر ٨١ عاما ، كانت نزواته تسيطر عليه طوال شبابه وحتى في ذلك الوقت كان ينحدر لأفعال غير أخلاقية، لا ينتمي إليها الرجال من المكانات الرفيعة مثله، وكان كل ذلك يجول في خاطره، وأقل ما يشغله هو إنصراف فريال دون أن تخبره شيئا أو توبخه، وحدث نفسه ، تراها لا تحبني، ولديها الحق، فأنا لم أحبها أيضا، لطالما كان اسم عائلتي مفيدا لي، مراد الكرمي، وسيلة للأموال الكثيرة وبعيدا عن كل الشبهات، وحجم تجاره لا يضاهيه أحد، كيف وقعت في يد ذلك الوغد، ربما تلك الفتاة تعرفه، ربما هم عصابة معا ، وتولت إيقاعي في الفخ وهو تولى تسجيل ذلك، أو هناك إحتمال أنه من مصوري الفضائح، شخص يائس كمن يصورون المشاهير ويترصدون لهم الطرق بحثا عن فضيحه. حدث نفسه وهو على بعد خطوات من مكان حدده ذلك المصور للقاء.
سوف أذهب للنيل منه مهما كلفني الأمر
ثم عاد مرة أخرى يقول :
أخشى أن ينقلب السحر على الساحر ، لذا سوف أبقى هاديا حتى النهاية ...
ظهر الصحفي وقال :
لماذا أردت مقابلتي يا مراد بك ؟ هل أقنعتك زوجتك بذلك ...لا أعرف كيف يعترف الرجال أمثالك لزوجاتهم عن الخيانة، لابد.وأنك لا تهتم لمشاعرها مثلما هي لا تهتم لخيانتك لها ...
وبدا على وجه مراد علامات الغضب فإستطرد الصحفي قائلا :
لا يهم على أي حال ، لقد أتيت وهذا ما يهم
أخبرني ما الذي تريده بالضبط
أريد أن تخبر الجميع أنك لست بإنسان نبيل بل مجرد وغد ..
احفظ لسانك أيها الصعلوك ، لا تعرف من أنا ومن أكون ، أنا من سلالة الملك فاروق ، أمثالك كانوا يركعون لأمثالي ..
ما أنت إلا نزوة تسير بين الناس وعلى الرغم من تقدمك في السن إلا أنك مازلت تسبب الحرج لنفسك ...أريد خمسة ملايين
هل جننت ؟
هل تعلم أنني لا أهتم بالمال
إذا فماذا نفعل هنا ؟ هل تريد أن تعظني ؟
لديك ثلاث شركات، لقد أسستهم بجهد ، لا أنكر ذلك ، على الرغم أن الحظ قد حالفك كثيرا، فلتقم ببيع إحداهم، سوف نتدبر ذلك لاحقا ونرسل لك من يشتريها منك ..
تمعن قليلا في ما قال ورد :
وهذا يجعل ثروتي تقل للنصف ، من وراء ذلك ؟ ، من يريد أن يفعل ذلك بي ؟ أنت لست وحدك ، أنت تابع لمنظومة ...
سيفاجئك كثيرا من أكون ...
حتى لو وافقت لن يكون بمقدروي ذلك ..
أريد جوابا الغد في نفس المكان ...
وعاد مترنحا بعد كأسين إلى القصر ، وعندما خلت فريال زوجته به ، عاتبته قائلة :
من الأفضل ألا تبدو ضعيفا في وقت ينتظر سقوطك الكثير ...
قال لها :
لقد خذلت الكثير ، ماذا يجب أن أفعل ؟ أن أبيع شركتي ؟
لو لم تبيعها ، سوف يحدث الأسوأ ، إن كان البيع يعني الموت فهو رصاصة الرحمة ، عندما ينشرون تلك الصور فسوف تصبح الشركات الثلاثة مهددة بالإنهيار ..
ومضى مراد في اجراءات البيع في اليوم التالي عند مقابلة الصحفي المتخفي في نفس المكان وقفت سيارة سوداء ونزل منها الصحفي وأخذ منه الأوراق وتفحصها سريعا ثم سأله مراد :
من تكون ؟ انني بحاجه لتفسير ؟ ..
فخرجت من السيارة سيدة تتدلى في الظلام بخطوات خفيفة حتى ظهرت في النور سأل متعجبا :
فريال! ، لا أصدق هذا
لقد عاملتني بقلة إحترام طوال تلك السنيين وكان لابد لي من أخذ حقي بتلك الطريقة ..
لم أكن لأمنع عنك شيئا ...
أعلم ذلك ولكنني كنت في حاجة لرؤيتك هكذا ، لأنتزعه منك وأتركك بلا شئ ، فكان لابد أن أتعاون مع أعدائك عندما يحين الوقت ..وكان لابد أن أتركك تقع في شباك تلك العاهرة ولم يكن ذلك صعبا بل كان في غاية السهولة ..أريدك أن تعيش كل دقيقة باقية في حياتك وأنت تفكر أنني قمت بخيانتك ، لتجرب ذلك الشعور ...
غادرت متجهة نحو السيارة وتبعها الصحفي وإنطلقت بينما ظل مراد واقفا في مكانه والحيرة تقتله.
تعليقات
إرسال تعليق