العائد من الحرب

 


 



كانت الثكنات على الجهتين، الغربية والشرقية في أشد تجهيزاتها للحرب، وكانت الأخبار تتحدث عن هزيمة الألمان، ولكن من يعرف ، الأخبار تأتي وتنتقل ولكنها لا تلقي الحقيقة تمامًا، وكان الرجال في الكتيبة السادسة عشر ليسوا خير رجال في الحرب، ولكنهم لا يخافون ، وعبروا الكثير حتى وصلوا إلى تلك الخطوط الأمامية، وبالتأكيد سقط الكثير منهم في تلك الرحلة نحو الصفوف الأمامية للألمان، فقد كان يتألف عددها من مائتين وخمسين جندي، فسقط منها الكثير من الجنود حتى باتت إثنين وأربعين جندي، ولكن فيما بينهم كانوا يتحدثون عن أن النصر بات قريبًا، والألمان يتساقط الآلاف منهم كل يوم، فحين كان يتجمع الرجال عند تبديل الورديات، ويكتبون الرسائل، ويرسلونها إلى ذويهم وكأنها الرسالة الأخيرة أو كما كان يقول الساعي في كل مرة يحضر فيها :

- من يريد كتابة رسالة حتى إشعار آخر .

عاد برنارد من الخدمة فوجد الساعي، هرع نحوه وكأنه وجد طعامًا سخنًا في هذا البرد، وفتش في الرسائل القادمة ولم يجد أي رسائل من حبيبته إيفا، لذلك سأل الساعي :

-إنها المرة الثالثة التي لا تحضر فيها رسائل من إيفا ؟

- ومن تكون إيفا بحق السماء ؟

- إنها حبيبتي وقد إعتادت أن تكتب لي مُنذ رحلت وأنا أكتب لها في كُل مرة ..

- صدقني ليس لدي رسائل منها ، سوف أستفسر عن ذلك بنفسي ، ربما وقعت بعض الرسائل في العربة ...

يعرف برنارد أن ربما وقع شرًا لإيفا، كانت الذكريات تجول في خاطره كُل مساء، في الخدمة حيث يرقد مُصوبًا سلاحه تجاه أي شئ يظهر، كان يفكر فيها، عندما سأله لويس زميله في الخدمه في تلك الليلة :

-ما أكثر شئ تفتقده في العودة ؟

رد بدون تفكير :

- إيفا ..إنها الوحيدة التي أفتقدها، إنها حياتي، وهي تقودني نحو العودة للديار مرة أخرى ، ويقلقني أنها باتت لا تكتب لي ..

- ماذا تعتقد أنه حدث ؟

- لا أريد التفكير في ذلك ...هذا يجعلني أقلق أكثر ..

صمت قليلًا لويس ثم عاود مرة أخرى طرح الأسئلة :

- ما أكثر ما يعجبك فيها ؟

أخرج برنارد صورة من جيبه ووضعها أمامه وظل يتمعن في النظر فيها وقال :

- إنها الوحيدة القادرة على كسر جبل من الصمت، وذوبان محيط القلق في رأسي، وبين قطبي قلبي هي الشمس، تظهر من حين لحين، ولكنها مُنتظرة مُنذ آلاف السنيين، لا أعرف ما صفاتها ولم أفكر فيها إن كان هذا غرض سؤالك ..

بعد أيام بلا نوم وبعد سماع صوت الرصاص في المناطق الخلفية كثيرًا وبعد سقوط البعض، ومع وصول المساعدات والتدعيمات، كان دخول البريطانيين وهزيمة الألمان هي نهاية رحلة برنارد مع الجيش البريطاني، وباتت عودته إلى الوطن وشيكة ، وفي المساء كانوا يصطفون في أفواج للصعود على العربات ليتم نقلهم في أفواج ، كان برنارد مع خمسة عشر آخرين في فوج واحد، وفي أثناء عودتهم إلى خارج ألمانيا، كان كمينًا نصبه بعض الألمان المُتعصبين، شرزمة كما قال برنادرد أثناء إطلاق النار، وحتى أنه دافع عن نفسه وبدأوا عملية الإختباء خارج العربة ، حتى فوجئوا جميعًا بإنهيال الرصاصات عليهم مُن كُل جانب، وبينما يجري في الغابة وحيدًا، مُرتعدًا أصابته رصاصة في كتفه، ألقت به على الأرض، إعتقد الألمان أنهم أصابوه، لم يكملوا خلفه، بل عادوا حيث جائوا، في ذلك الوقت وأثناء إستلقاءه على الأرض، بدأ في الزحف للدخول في الغابة، ولم يكن يعرف كيف يجتمع بأقرانه مرة أخرى، أو على الأقل كان يعتقد انهم ماتوا، وبعد ساعات من الجري للهروب، شعر بالتعب، ولم يستطع أن يواصل، لذلك جلس على الأرض، وبجانبه بندقيته، إستراح وأسند ظهره على شجرة ، سمع صوتًا يدوي من الألم خلفه ، صوب سلاحه تجاه الصوت، كان الصوت غير واضح، ولكن صوت لشخص بالتأكيد يتألم، إقترب من الصوت حتى وجد أحد رفاقه وقد أصابته رصاصتان قال :

-لويس أهذا انت ، ما الذي حدث لك ..

- لقد أصابني الأوغاد برصاصتين ..لن أنجو يا برنارد ..لن أنجو ...

- لن أتركك هنا ..سوف نطلب الدعم

أخذ اللاسلكي من حقيبة لويس وبدأ في إرسال الإشارات للوحدة ولكن لم يجب أي أحد، ظل يُرسل الإشارات قرابة الساعة ، حتى بدأ يفقد لويس الوعي من كثرة فقده للدماء.

- لويس إبق معي ..تستطيع الصمود

- لا يمكنني الصمود ..يجب أن تخلصني من ذلك ..الأوغاد في طريقهم ، لن ينتهوا ..

- لن أتركك

قال لويس وهو يلتقط أنفاسه :

- لو إستطعت أن أحمل المُسدس ، لأطلقت رصاصة على رأسي ولكنني لا أقوى على حمل السلاح

بعد إلحاح لويس، كان يظن برنارد أن لويس ليس لديه فرصة للنجاه، هو بعيد كُل البعد عن الإستجابات العسكرية، ولم ينس أنه مُصاب هو أيضًا، وكان وقتها الغروب، والليل يستعد للهبوط ، والظلام سيسود المكان عن قريب، لم يعرف برنارد ما الذي يجب عمله، وقف وهو يبكي بحرقة، وصوب بندقيته على رأس لويس وأطلقها، ثم أكمل السير والهرب حتى الصباح يجري بين أشجار الغابة إلى حيث لا يعرف حتى ظهور نور الصباح، وقع على الأرض، لم يستطع المواصلة، رأى إيفا تقترب منه من بعيد، مُرتدية ثيابًا حكتها لها والدتها وهي في صغرها، نفس الثياب التي كانت ترتديه عندما أخبرها برنارد للمرة الأول أنه يحبها، إقتربت من بعيد، ظل يتابعها حتى فقد الوعي وهو يهذي بالكثير من الكلمات، حتى وصلت إليه، سمع صوتًا :

- أحضروه معي ..يجب أن نأخذه للداخل حالًا ، يا إلهي إنه مصاب يبدو انه فقد الكثير من الدماء ..

بعد عدة ساعات، إستفاق برنادرد على سرير محشو من القش، وأخذ ينظر حوله ويحاول ان يعرف أن يرقد، وتبين من خلال فحصه لنفسه عاريًا ماعدا جزءه السفلي أن رصاصته قد تم تضميدها ولكنه لم يتذكر أي شئ ، دخلت سيدة تبدو في الأربعينات من العمر، مُزارعة، تبسمت له وقالت :

-يبدو أنك بخير الآن ..لقد قلقت عليك ..فلتأخذ هذا اللبن ..

أخذه برنارد وشرب الكثير منه ثم قال :

- شكرًا لك ...

- هل تتسائل من أنا ؟

أخذته من يده ليخرج على مهله خارج الغرفة ، كانت الباحة الأمامية عبارة عن مزرعة، الكثير من الأبقار ، وبعض السيدات يؤدين عملهن ..

-أنا باولا لقد قُتل زوجي في بداية الحرب ، أنا يهودية ..قُنل زوجي على يد النازيين ، لم نستطع أن نهرب بما فيه الكفاية ولكننا هنا إشتريت تلك المزرعة ، أما زوجي لقد أخذوه في مُعسكر النازيين ، وبعضها نفذوا عليه حُكم الإعدام ..هذا ما جعلني أساعدك ..لقد خلصتنا من هؤلاء الأوغاد ...في الوقت الحالي هل يمكنني أن اسألك ما الذي ستفعله ؟

- أريد العودة إلى بلادي ..

- وما الذي حدث هناك ؟

- بعض النازيين على ما يبدو لقد صنعوا لنا فخًا وإعترضوا طريقي أنا وبعض الجنود أثناء العودة ، إستطعت الهرب منهم ولكن يبدو أنهم قتلوا أصدقائي ...وأصابوني على ما يبدو ..

- لا يمكنني القول سوى أنك محظوظ أن ماريا كانت موجودة هنا لتساعدنا على إنتزاع تلك الرصاصة من كتفك ..إنها لا تحضر كثيرًا ، ولكن في اليوم الذي كانت هنا فيه ، إلتقيتها على الطريق ، ونحن عائدون ... كُنت أنت ..لديها خبره في هكذا أشياء ..إنها ممرضة بطبيعة الحال..

- يبدو أنه يجب أن أشكرها على ذلك .. لقد أنقذت حياتي ..

- بالطبع ....فلتتناول فطورك أولًا..وسوف تحضر في أي وقت ، لقد خرجت لتحضر بعض الأدوية .. لتقوم بالإطمئنان على جرحك وإعطائك بعض الأدوية..

كانت جميلة بشكل يختلف عن باقي السيدات في ذلك المكان ، كانت صغيرة كما كان يراها برنارد، منتصف العشرينات على ما كان يبدو ، أو في نهاية العشرينات ربما، مظهرها مُريح، ولبقة في الحديث للدرجة التي تجعلك لا تشعر بأنك تتحدث، بل تنساب الأحاديث منك بدون ترتيب، وبعد أن قامت بتغيير الجرح أخبرته :

- يبدو أن جرحك بخير ، ولكن يلزمك بعض الراحة ، هاك بعض المُسكنات، واحدة صباحًا ومساءًا ..

صافحها برنارد ضاحكًا :

- أنا برنارد ..ما هو إسمك ؟

- ماريا ...ماريا براون ..

- لقد أخبرتني تلك السيدة اللطيفة بالخارج أنك أنقذت حياتي ...

- لا شئ يذكر ..كان واجبًا أن أفعل ذلك ..

- كما أخبرتني أنك ممرضة ..

- لقد درست في مدرسة التمريض لمدة عامين ..كان هذا قبل أن أفقد أسرتي في الحرب العالمية الأولى ...

- هذا شئ مؤسف ..آنا آسف .

- لا تتأسف ..يجني بعض الحمقى النازيين كُل ذلك ..كان يجب أن يتحملوا الثمن مُنذ وقت بعيد ..

ساد الصمت قليلًا عندما تلاقت أعينهم فقالت ماريا :

- على أي حال ..يمكنك أن تستريح لبعض الوقت ، حتى تستعيد صحتك مرة أخرى ثم يمكنك مواصلة طريقك ..

- وهل ستكونين موجودة ...في حال تراجعت صحتي مرة أخرى ..

- لا تقلق سوف تكون بخير ..

كانت الأيام التالية على برنارد ثقيلة، وعلى الرغم من أنه ينتظر العودة، لم يكن يعرف ما الذي تخبئه تلك المُفاجأة ، فقد كان يشغل باله أن الكتيبة قد عرفت بشأن ذلك الهجوم وعندما سيدة المزرعة باولا أخبرته أنه أصبح على الحدود النمساوية ، لقد غيرت الغابة أثناء هروبه مساره، ووجد نفسه هناك على الحدود النمساوية حيث كانت تسكن باولا ، وأخبرته تلك السيدة التي كان يبدو عليها القوة في الكثير من الأحيان أنها من الممكن أن تدبر له سيارة ، لتخرجه من البلاد وتعيده، مسافة يومان أو ثلاثة وسيجد نفسه في المكان الذي يريد، وبعد أيام قليلة وقف خلالها في الشرفة يعد الثواني ويُساعد في حمل بعض القش وتنظيف الحظيرة من أجل باربرا في المزرعة كخدمة منه جراء مكوثه ومساعدتهم له، حضر ذلك الرجل بالسيارة وقد إستعد للرحيل وقف وشكر السيدة باولا ، كما ذهب للمرة الأخيرة إلى ماريا وقال :

-يبدو أننا لا نرى بعضنا مرة أخرى ..

- هذا مؤسف ..

تمشى معها قليلًا في المزرعة وأخبرها :

- لن أنسى أبدًا ما فعلتيه معي ..يبدو أنني وبلادي قد تسببنا بالكثير من الألم لك وعلى الرغم من ذلك لقد ساعدتيني ..

- لا يهم كُل ذلك ..أنت تحتاج للمساعدة وأنا ساعدتك ..

- هل أخبرتك سابقًا أنك عينيك جميلتان ..

إحمرت وجنتاها وحاولت أن تُخفي إبتسامتها ، ولم تنطق بأي شئ ، إبتسم برنارد وصعد في الشاحنة مع الرجل ، شكر سيدة المزرعة مرة أخرى وإنطلقت السيارة ، كان كُل ما يشغل بال برنارد في تلك اللحظة نشوته وسعادته في العودة أخيرًا للوطن، كان يشتاق لإيفا ، على الرغم من أنه قد أُعجب في الأيام القليلة التي مكثها في المزرعة بماريا المُمرضة إلا أنه كان يتمسك بإيفا، وعدة أيام كان في موطنه أخيرًا تحديدًا في بلدته ، وبثياب الحرب وقف أمام البيت وقد إعتقد أنه سيجد إيفا تنتظره كما كانت تزوره في أحلامه، إلا أنه دق الباب كثيرًا ، بيتها قبل أن يصل بيته ولم يجد أي احد ، لقد كان خاليًا ، خرجت جارتها ، وإندهشت لرؤية برنارد حيًا مرة أخرى، إحتضنته وقالت :

-برنارد ..أنت حي ..هذا لا يصدق ..

- كيف حالك يا سيدة هادسون ..أين إيفا ..؟

تغيرت ملامح وجهها ثم قالت :

-ألم يخبرك أحد ..ألم تخبرك بشئ ..يا للنساء !

- ما الذي لم تخبرني به يا سيدة هادسون ..

- لقد إنتقلت من هنا ...

- إلى أين ؟

- لا أعرف ..المدينة ربما ...

ثم سكتت قليلًا ثم عاودت الحديث :

-لقد تزوجت ..

سألت برنارد مٌستنكرًا :

تزوجت ...! ؟

-مُدرس في المدرسة ، لقد حدث ذلك بعد عدة أشهر من رحيلك ...

- كيف فعلت هذا وقد كُنت أراسلها ..

- لحظة

ودخلت إلى البيت أحضرت رزمة من الرسائل وأعطتها له وقالت :

-هذه هي الرسائل ...يجب أن تعذرها لقد كانت قلقة حيال الأخبار ، أرادت أن تنتقل، كان الأمر مُرعبًا أن تنتظر خبر موتك في أي لحظة ..أو أن تنقطع الرسائل ...في تلك الأيام حضرت وأعطتني تلك الرسائل كما كلفتني بمهمة جمع الرسائل دون أن تعرف هي شيئًا ودون أن أخبرها ..

عاد برنارد يحمل الرسائل في جعبته التي كُتبت والتي لم تُكتب، يحتضنها إلى صدره، عاد إلى منزله أخيرًا ، جلس ولم يفكر سوى في إيفا ، وكيف تركته؟، ولأيام متتالية لم يعرف ما الذي يجب أن يفعله، لقد ضل طريقه، وفقد روحه، أحضر ورقة وبدأ يكتب رسالته.

" عزيزتي إيفا :

كيف يمكن للمرء أن يعيش بدون رؤيتك في خياله صباح كُل يوم ؟ ولكن هذا يؤلم أكثر لأنني كُلما رأيتك في خيالي، رؤية شخصًا في ملامح مُختلقة في خيالي، لشخص آخر إلى جانبك ، وقد أخبرتني جارتك العجوز أنك إنتقلت من الحي ، الحي الذي رأيتك أول مرة فيه ، وقد إعتقدت أنك لن تُغادريه على الإطلاق، تخرجين كُل صباح بجانب زوجك، هل تودعينه كُل صباح وتتمشين معه إلى خارج المنزل؟

في الكتيبة التي حاربت فيها، ثلاثمائة قتلى، حوالي الآلاف من الرصاصات على الجهتين، عشرات القنابل، وصرخات وآهات، وأشلاء متناثرة، ومُحاولة إغتيال آخيرة، رصاصة تخترق ذراعي وحوالي أربعة كيلومترات من الهرب حتى لا يقتلني النازيين، ولم أمت...إعتقدت أنني هنا لسبب ما ، لأقابلك مرة أخرى وأعرض عليك الزواج ولكنني علي مواصلة حياتي ..السبب الوحيد الذي يجعلني أغفر لك ، هو أنني لم أكن مُتأكدًا من عودتي .."

طوى رسالته ووضعها في مظروف ، وحزم حقيبته وأعطاها لسيدة هادسون، وأخبرها أن توصلها إلى إيفا، وبعد عدة أيام كان في المزرعة، وقف من بعيد ورأى السيدات يعملن في الحقل، رأى من بعيد باولا، التي إبتسمت حين رأته مرة أخرى، نظر للشمس وأحس مرة أخرى بالراحه التي لم يشعر بها حين عودته للديار، نادت بولا على ماريا وقفت ماريا من خلفها، تنظر في دهشة غير متوقعة، بينما يحدق برنارد في عينيها، إبتسمت باولا وسألته :

-ما الذي عاد بك إلى هنا أيها الجندي، لقد إعتقدت أنك ستعود إلى وطنك ؟

- وماذا بقي للجندي في وطنه .... الوطن حيث يشعر الجندي منا بالطمأنينة أنه لا توجد حروب مرة أخرى ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرابعة والنصف مساءًا بتوقيت دوسلدورف

حامل المخطوطة في ظلام أبدي ( قصة قصيرة )

فرحة البدايات - أول أسبوع في ألمانيا